وكانت تلك الأسواق، بحسب المصادر التاريخية، عامرةً بالحركة التجارية المتمثلة بالقوافل القادمة من مختلف الأقاليم، حيث تسودها الطمأنينة وتنشط فيها الخدمات المرافقة للسياحة الدينية المبكرة، فكان الكثير من الزائرين يفضلون البقاء قرب مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، فيما يعود آخرون إلى ديارهم بعد أداء الزيارة.
تُظهر المصادر التاريخية أن تخطيط تلك الأسواق لم يكن عفوياً، بل خضع لمعايير دقيقة تشبه إلى حد بعيد أساليب التنظيم المعتمدة في الإمبراطوريات الكبرى. فقد أكد أحد المؤرخين أن الأسواق "ينبغي أن تكون من الارتفاع والاتساع على ما وضعته الروم قديماً"، مع تخصيص الأرصفة، وتنظيم ممرات المشاة، ومنع تجاوزات الدكاكين على الشوارع العامة.
كما كان على المحتسب – المشرف على النظام العام – إزالة أي عدوان على الممرات، وضبط التعديات التي تُلحق الضرر بالمارة، حيث جرى تخصيص سوق لكل صنعة بهدف تسهيل الوصول وتحقيق بيئة عمل اقتصادية منظمة، مع مراعاة عدم جمع المهن غير المتجانسة كالحرف التي تعتمد على النار بجوار محلات العطارين والبزازين.
وتكشف نصوص الشيزري عن مستوى متقدم من الوعي المدني في كربلاء القديمة؛ إذ يؤكد على ضرورة منع أي بناء أو مخرج مياه يؤذي السالكين، ويُلزم أصحاب الدور والمتاجر بتصريف المياه داخل بيوتهم وعدم إلقاء الأوساخ في الطرقات، تجنباً للضرر وتعزيزاً للصحة العامة.
وتعدّ هذه القواعد، التي وُضعت قبل مئات السنين، اليوم شاهداً على رؤية حضارية سبقت الكثير من المدن في إدارة الأسواق والمناطق التجارية.
وقد وصف الرحالة والزائرون تلك الأسواق بأنها تشبه أسواق أوروبا في العصور الوسطى، حيث تُقسم المناطق التجارية إلى قطاعات واضحة، فهناك مخازن الجلود وورش السمكرية، تليها دكاكين الصاغة التي كانت تضج بأعمال الفضة والذهب، وصولاً إلى سوق السجاد الذي كان يضم مختلف أنواع السجاد الإيراني ذائع الصيت.
يذكر أن هذا التنوع في الحرف والصناعات، إلى جانب التخطيط العمراني المحكم، جعل من أسواق كربلاء علامة بارزة في تاريخ المدن الإسلامية، ومرجعاً يعكس تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيها عبر قرون طويلة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!