في الآونة الأخيرة صرنا نلاحظ بروز حالة أو ظاهرة انتشرت وربما اتسمت بطابع الشمولية أو العمومية في المجتمع حيث أن معظم الأسر إن لم نقل برمتها إتفقت على أن تكون غاية أمانيها ورغباتها ومرتجاها أن يحقق الأولاد من أفراد الأسرة معدلا في النجاح في المرحلة الإعدادية المنتهية بدرجة كاملة 100%
ليتسنى لهم من خلال ذلك المعدل الالتحاق بكليات الطب أو ما يعادلها بالصنف والاختصاصات الملحقة بها أو المشابهة .
وقَلَّما تجد من يحث الطالب على أن يلتحق بكليات أخرى وما يحدث ذلك إلا ما ندر أو ما يجبره إجمالي معدل الدرجات وما تقرره أو تفرضه الانسيابية. وثمة انطباع مترسخ لدى معظم العوائل الكريمة يسفر هذا الإنطباع عن الإعلان بضرورة إحراز أبنائها مرتبة عالية بالتحصيل العلمي لبلوغ أعلى المراتب من خلال الحصول على درجات كاملة في المنهج الدراسي . وعوائل أخرى نشأ لديها انطباع آخر وهو الميل والانحياز إلى صنف من التخصصات تعكس هذا الإنطباع رغبة هذه العوائل الكريمة في تفضيل اشتراك الأفراد في العائلة الواحدة بالتماثل أي بتعددها بالاختصاص نفسه فمثلما بعض الأطباء يحثون أبناءهم بالحرص على التخصص بما تخصصوا به هم ويحرص بعض المحامين من خريجي كليات الحقوق في حث أبنائهم على سلوك الطريق نفسه وكذلك المهندسون يرغبون في أن يسلك ابناؤهم السبيل نفسه بالإلتحاق بكلية الهندسة مثلا ولأسباب يضمرونها ليكون ابن الطبيب طبيا وابن المحامي محاميا وابن المهندس مهندسا وتحمل العائلة لقب الطبية أو الحقوقية أو الهندسية وهكذا من العوائل التخصصية.
تصورات ازدحمت بها الأذهان
ومن الظواهر التي قد تكون مستحدثة إنما إزدادت انتشارا في هذا الزمن استبطن مضمونها على الظن والاعتقاد أو التصور على أن لا يتخرج أي فرد من الجامعة إلا ويحتم على الدولة أحقية تعيينه في إحدى دوائرها ويتسنم منصبا أو مركزا يليق به كخريج جامعة ويستلم راتبا شهريا يعيل به نفسه وعائلته ويعتقد أن امتناع الدولة عن الاستجابة لهذا المطلب هو مخالفة جسيمة واجحاف بحق الخريج وذلك يستدعي أن يحتج ويتظاهر ويحرض على التظاهر ضد الحكومة .
من المُسَلَّمِ به أن ثمة مواهب وطاقات ومهارات غالبا ما يكون البلد بحاجة ماسة لها مما يقتضي أن يتم استثمارها خير وأفضل استثمار ورعايتها وإيلاء الاهتمام البالغ بها. ولكن شريطة أن لا يختزل الاستثمار على العمل في الدوائر كوظيفة روتينية فثمة مساحات شاسعة يمكن أن تستوعب هذه الطاقات والمواهب والكفاءات لتستثمر في أوسع المجالات بتقديم خدمة وافية مجزية للوطن بطرائق ومسالك أخرى نائية عن الركود الخدمي والجلوس في إحدى الغرف المغلقة في دائرة معينة مهما كان حجم هذه الدائرة أو موقعها الخدمي على سبيل المثال.
أيهما يتفوق على الآخر
حين يستدعي الأمر أن ندلي بالراي في تقييم أو بيان موازنة أو مفاضلة لعمومية الخدمة للوطن وللمجتمع ونتساءل أي الطرق والأساليب والسبل العملية التي يمكن من خلالها تقديم خدمة أفضل للوطن والمجتمع؟ هي عن طريق القطاع الخاص أو القطاع العام؟
لعلنا لا نحسن بالضبط تحديد الأفضلية فكل قطاع له موقعه ووزنه وأهميته وخصائصه ومزاياه ومحدداته وكل قطاع يمكن أن يكون رافد خدمة جليلة جيدة للمجتمع ويوفر فرصا معينة في الوقت ذاته مع توفير المستلزمات المطلوبة.
ثمة فئات مجتمعية يعكس منظورها تصورًا عن القطاع الخاص ويعدونه موردا ومكسبا يحقق انسيابية مالية مضمونة للفرد والأسرة ويؤمن له العيش الكريم وربما ادخارا يوفر دخلا ورفدا جيدا لا يتوقف مع ضمان مستقبل زاهر معتقدين أن ذلك يتحقق مع اختصار الزمن عكس ما يستوجب استهلاكه من أجل التوفير في القطاع العام. أي إن فرصة التوفير وتحقيقها في القطاع الخاص أفضل وأوسع وأيسر من فرص القطاع العام ولا يستغرق تحقيقها وقتا طويلا.
وإما بعض الأسر بأفرادها فلها رأي خلاف ذلك وتبدي استعدادها وتأهبها لأن تتبنى إقامة المشاريع وإنجازات عملية كبيرة أو حتى بصناعات يدوية إنتاجية صغيرة توفر وضعا اقتصاديا وبانسيابية جيدة وتعود بمردودات تجعل الأسرة تعيش حياة كريمة مرفهة. هذه الأسر لا ترغب بالانخراط في مسالك القطاع العام إذ تعتقد أنه يمكن أن يتحول أداة لقتل الإبداع أو تضعيفه إذ إن العمل فيه يمثل الركود والجمود وملازمة الأداء الروتيني والرتابة والنمطية الثابتة وممارسة الإجراءات الشكلية الصورية التماثلية الموحدة. ويرون أن هذا الاداء يفضله بعض الراغبين الملازمين لحالة الاتكالية والاستهانة بالقدرات والكفاءات والمواهب الشخصية وتفضيل الراحة بصيغ أشبه بالبطالة المقنعة
هذا المنظور والتصور يأخذ صفة أشبه بالعمومية لدى بعض الفئات أو الطبقات المجتمعية.
تناسبية وتكافؤ بين محاسن ومثالب
ولا ننسى أن القطاع الخاص مثلما يمنح الفرد الحرية في التصرف والتعامل مع الجزئيات والمفاصل العملية وطرق الإنتاج والإبتكارات والتبادل التجاري فهنالك إمكانيات للتوسع فهو يوفر للفرد مساحات واسعة وفرصا متاحة للإبداع أكثر بكثير مما يحصل بالقطاع الخاص خصوصا حين يكون الفرد على علاقة وثيقة وحب شديد لعمله ولما ينتج. حيث أن فرص الاجتهاد وسلوك سبيل التطور أكثر مما تتوفر في القطاع العام إذ إن القطاع الخاص يوسع العلاقات العامة ويفتح آفاقًا كبيرة وواسعة للتعاطي مع عجلة التقدم والتطور التجاري والإقتصادي. خصوصا حين توفر الحكومات إسنادا ودعما وتشجيعا للمُنتِج والإنتاج.
وما يشيع من قبل بعض الاشخاص أن سبب الميل أو تفضيل الانخراط أو الانتساب لمواقع القطاع العام الحكومي يوشي بالظن بأنه يحقق ضمانا ومستقبلا زاهرا أفضل للفرد وما يليه من أفراد أسرته. وذلك بضمان استلام راتب تقاعدي دائم مستندا إلى قاعدة ( قليل دائم خير من كثير منقطع).
يقابله رأي آخر مغاير لما يشيع بين بعض الشرائح حيث يرى أصحاب هذا الراي أن هنالك أفرادًا اجتهدوا ونشطوا في العمل بالقطاع الخاص ووفروا ضمانات حتى بعد بلوغ سن التقاعد أو غيره لتضمن الأسرة بالتعاقب العيش الرغيد على المشروع أو المنجز والتوارث العملي أبًا عن جد وهكذا .
دواعي إجهاد وأعباء الموازنات
إن الذين يتشبثون بالرغبة الجامحة بمنهجية التوظيف التقليدي والتعيينات في الدولة ويحسبون أن الدولة ملزمة بتوظيفهم ومنحهم مختلف الدرجات الوظيفية توزيعا عليهم بما يتناسب مع استحقاقهم الذي يتصورونه فلو حدث أن الدولة أقرت ذلك واستجابت لهذه الرغبات وتلبية المطالب ودأبت على تعيين كل من يطالب بذلك فمن المحتم أن هذا الأمر سيثقل كاهل الدولة ويشكل أعباءً إضافية .
إذ يضطرها إلى استحداث تخصيصات تفوق إمكانية ما تخصصه الموازنات وهذه التلبية والإستجابة تشكل ضررا جسيما على مفاصل كثيرة من كينونة القطاع الخاص إذ هو بحاجة إلى سبل ووسائل وعناصر لتنمية وتطوير القطاع والنهوض بواقعه
بدلا من المساهمة في سد احتياجات مفاصل القطاع الخاص وإيجاد فرص والسعي لاستحداث إبداعات وابتكارات لتطوير هذا القطاع ويؤدي ذلك للتخلي عن تطويره.
إذ إن أرباب القطاع الخاص والمهتمين بشؤونه غاية الإهتمام يتبارون بالمنافسة الشريفة والمشروعة للتجديد والابتكار وهذا الأمر بحاجة لعدة عناصر.
ولعل ذلك ما يدعو أن تستخدم الدولة أحيانا نظام الخصخصة أي تحويل ملكيات بعض المشاريع الإنتاجية في القطاع العام إلى القطاع الخاص لإدارة شؤونها وللإستثمار الأمثل وهذا ما يخفف الكثير من الأعباء ويوفر مصادر وعناصر للبلد وللمستثمر.
وختاما نقول إن الموازنة بين القطاعين العام والخاص تبقى تتأرجح مما يحتم على المعنيين أن يمدوا يد العون والمناصرة من أجل النهوض بالقطاعات الإنتاجية بمختلف جوانبها ومفاصلها بكيفية تدر بالمنفعة على البلد وابنائه وحث الراغبين في المشاركة في القطاع الخاص .
التعليقات
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!