ابحث في الموقع

الصينيون في العراق.. ودبلوماسية "السَمكرة على البارد"

الصينيون في العراق.. ودبلوماسية "السَمكرة على البارد"
الصينيون في العراق.. ودبلوماسية "السَمكرة على البارد"
بقلم: حيدر نجم - صحفي وكاتب مستقل

يعرف ويعي “أبناء حضارة التنين” أهمية الموقع الجغرافي لبلاد ما بين النهرين، كممر رئيسي لتجارتهم العابرة للقارات.. موقع إستراتيجي لا يمكن الإستغناء عنه وتركه بيد الخصوم والمنافسين يسيطرون عليه ويتحكمون فيه، وإن أوجدوا لهم طُرقا وممرات (برية وبحرية) أخرى.

هم وضعوا في اعتبارهم أيضا أهمية العراق من شماله حتى جنوبه، كسوق متعطش لبضائعهم المتنوعة، وكذلك كمصدر مهم وحيوي لتلبية حاجتهم المتزايدة للثروات المعدنية والمواد الخام، ومنها ثروته (النفطية وغير النفطية) لإدامة صناعاتهم المتنامية.

لم ييأسسوا ولا وهنوا على “الفيتو” الأمريكي “غير المعلن” ضد تواجدهم الاستثماري في العراق، الذي يريد “العم سام” ويعمل جاهدا على عرقلته؛ وصولا الى مرحلة تعطيل العلاقة الاقتصادية بين بغداد وبكين، وقطع دابرها إن سنحت الفرصة لذلك.

ومع التعطيل الذي وصل إلى حد إلغاء العديد من بنود “الاتفاقية الصينية” التي وقعت بين البلدين قبل سنوات، والعراقيل التي وضعت أمام اتفاقيات “طريق الحرير” التي يسميها الصينيون (مبادرة الحزام والطريق -BRI)، إلا أنهم ظلوا متمسكين بحبل الامل والمودة مع العراقيين “المستضعفين والمُكرهين” سياسيا ودبلوماسيا وإستثماريا وأمنيا وإقتصاديا من قبل “الكاوبوي” وأعوانه الغرب-أطلسيين وتوابعه الاقليميين الذين يسعون بكل قوة الى تحجيم دور العراق وعلاقته الاقتصادية بالمارد الصيني العملاق.

الأمر فاق المعقول في هذا الجانب وبلغ السيل الزبى، إذ فُرضت عقوبات (بشكل مباشر وغير مباشر) وإشتراطات أمريكية “مُهينة” وتمت ممارسة التضييق على كبار وصغار التجار والصيارفة والمستثمرين العراقيين، بخصوص (الحوالات النقدية) المرسلة الى نظرائهم في الصين.!

ناهيك عن “التوصيات المُشددة والتوجيهات الصارمة” التي ينقلها ويقدمها موظفون قادمون من واشنطن او عاملون ضمن طاقم السفارة الامريكية ببغداد لوزراء ومسؤولين عراقيين؛ فيما يخص عمل الهيئات الكمركية والموانئ البحرية والمنافذ الحدودية تجاه التعاملات التجارية والمصرفية والشحنات السلعية الواردة من دول لها خصومة مع امريكا مثل الصين وايران.

هذا الرفض والتعطيل والعقوبات والعراقيل، لم يمنع “أحفاد الامبراطور الأصفر” من الاستمرار بالمنافسة المشروعة لاستحصال المشاريع الاستثمارية في العراق وإدامة زخم تجارتهم معه، حتى وإن تطلب الامر أحيانا، استخدام مهاراتهم المعروفة برياضة (الكونغ-فو) على الصعيد الدبلوماسي. 

تارة بشكل فكاهي ومُسالم على طريقة فنانهم الهوليودي المشهور “جاكي-شان”؛ وأخرى بدور حازم وصارم وفق نهج ادوار ممثلهم المتجنس أمريكيا الراحل “بروس-لي”، وهو ما تحقق لهم في عدة مشاريع داخل بلاد الرافدين اخرها كان مشروع (مجسرات وانفاق ساحة النسور) في بغداد.

الصينيون تعاملوا مع ما يواجهونه من مصاعب وضغوطات ومشاكل “مُبيتة” وضعت لهم على شكل أفخاخ من قبل الأمريكان وتوابعهم في العراق، بعقلية “سمكري السيارات” الذي يتعامل مع المركبات المتضررة من حوادث الطرق والاصطدامات بعبقرية وهدوء وأنامل ذهبية يُعيد بها للمركبة “المعقوجة” رونقها.

ومثلما يحتاج الدبلوماسي الهمام الى أعصاب هادئة ونفس طويل ومساحة وقت ولباقة ونظرات باردة وعقل فذ.. لإنجاز المهام المطلوبة منه في إدامة العلاقات الدولية، فإن سمكري السيارات يحتاج بعمله أيضا الى الوقت وبرودة الأعصاب و”الخُلق” الطويل -مثلما يُطلق عليه بالعامية العراقية- لإتمام مهمته على أتم وجه.

وهذا ما نجح فيه “أصحاب الوجوه الصفراء والعيون الضيقة” في عملهم الدبلوماسي والتجاري الشاق داخل العراق رغم المضايقات والعراقيل الامريكية، وما رافقه من “هوان” عراقي على الصعيد السياسي -الرسمي وليس الشعبي.

وعلى نطاق أوسع وليس بعيدا عن حدود الجغرافية العراقية، برزت الجهود الدبلوماسية المضنية التي بذلتها الصين لإنهاء الأزمات وإطفاء الحرائق السياسية بين دول غرب اسيا تمهيدا لمشروعها الاقتصادي العملاق؛ في وقت كانت الولايات المتحدة تفتعل ‎مشاكل وتشارك في حروب وتصب الزيت على جمر الصراعات الفتنوية الخامدة؛ لعرقلة المشروع الصيني العابر للقارات والمحيطات الذي سيزلزل الارض تحت أقدام “راعي البقر” وقطيع ثيرانه في منطقة “الشرق الاوسط” الملتهبة.

خشية الصينيين على مصالحهم التجارية المتنامية في ‎المنطقة، وسعيهم المحموم لحماية مشروع ‎”طريق الحرير” ضمن مبادرة ‎”الحزام والطريق” دفعتهم للتدخل بقوة وسرعة وعلى أعلى المستويات لعقد ما عُرف قبل سنوات قليلة بـ“المصالحة الأولية” بين ‎السعودية وغريمتها اللدودة ايران، وهو صلح تعتبر الصين الرابح الأكبر فيه. اذ حققت بموجبه انتصارا دبلوماسيا على امريكا التي كانت ولا زالت تدفع باتجاه الصدام بين دول الخليج وبلاد فارس.

ومن هنا وبناءً على العمل الدبلوماسي المُكثف والتواجد الميداني المُلفت للصينيين في العراق والمنطقة عموما، الهادف على ما يبدو لتثبيت وجودهم وحماية مصالحهم الاقتصادية والتجارية، فانهم بذلك أوجدوا نوعا جديدا من الدبلوماسية يمكن إصطلاحه بعبارة “الدبلوماسي السمكري”.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
كرار الاسدي

كرار الاسدي

كاتب في وكالة نون الخبرية

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!