ابحث في الموقع

العراق بين بقاء الأزمات ومصالح المتنفذين: قراءة بالفساد والسياسة

العراق بين بقاء الأزمات ومصالح المتنفذين: قراءة بالفساد والسياسة
العراق بين بقاء الأزمات ومصالح المتنفذين: قراءة بالفساد والسياسة
بقلم: كريم محسن

من خلال متابعتي للشأن السياسي في العراق على مدى السنوات الماضية، يمكن استخلاص حقيقة مؤلمة، لكنها صادقة: الكتل السياسية المتنفذة تجد في استمرار الأزمات والفوضى الاقتصادية والسياسية والخدمية بيئة مثالية لتثبيت سيطرتها. فكل أزمة تتفاقم، وكل خدمة تتأخر، وكل فساد يُكشف، تصبح هذه القوى أكثر قدرة على الدفاع عن نفسها، وتبرير وجودها، بل واستغلال الأوضاع لصالحها. ومن هنا يظهر سؤال جوهري: هل يهمها فعلاً إصلاح العراق، أم أن بقاء المشاكل هو ما يخدم مصالحها على المدى الطويل؟

لنسلط الضوء أولاً على جانب الخدمات. المواطن العراقي، في المدن والريف على حد سواء، يعيش حالة من العجز المستمر في توفير أبسط الحقوق: الماء، الكهرباء، الصحة، التعليم، والنقل. كل زيارة لمستشفى، وكل انقطاع للكهرباء، وكل مدرسة تفتقر إلى الكتب والمعلمين، لا يعكس فقط إخفاق الحكومة، بل يُظهر براعة القوى المتنفذة في تحويل الفشل إلى أداة سياسية. عندما يعاني المواطن، يصبح حديثه عن الأحزاب غير فاعل، ويبحث عن من يخفف عنه ألمه ولو مؤقتاً، وهنا تأتي القوى المتنفذة لتملأ الفراغ، بتقديم خدمات جزئية أو رمزية، يتم تصويرها على أنها إنجازات، في حين أن المشاكل الكبرى ما زالت بلا حل.

هذا الوضع يعكس استراتيجية غير معلنة: إبقاء الدولة ضعيفة، والمؤسسات عاجزة، والمواطن في حالة انتظار دائم، لأن كل تقدم أو تحسن في الخدمات يُقلل من الحاجة لهذه القوى. إنهم يعرفون أن الدولة القوية والمواطن الراضي عن الخدمات ليس فقط يفقدهم أدوات السيطرة، بل يخلق أرضية جديدة لمنافسين مدنيين مستقلين. لذلك، هناك ما يشبه «تحالفاً غير معلن» بين استمرار المعاناة وبين بقاء نفوذ هذه الكتل.

أما من الناحية الاقتصادية، فالمشهد لا يقل سوءاً. العراق يمتلك ثروات هائلة من النفط والموارد الطبيعية، ولكنه يعيش أزمات مالية متكررة، تضخماً غير محسوب، وبطالة متفشية. الاقتصاد، كما يبدو، ليس أولوية حقيقية للكثير من القوى السياسية. لماذا؟ لأن الاقتصاد السليم يعني توزيعاً أفضل للثروة، وفرص عمل جديدة، واستقلالاً أكبر للمواطن. وهذا كله يضعف سيطرة المتنفذين على المواطن. كل أزمة اقتصادية، من ارتفاع الأسعار إلى انهيار العملة، تصنع حالة من الاعتماد على الدولة المؤقتة، أو على تدخلات المحسوبية، وهنا يظهر الفساد كأداة لضبط الواقع السياسي والاقتصادي.

الفساد في العراق ليس مجرد تجاوزات مالية عابرة، بل هو صناعة متقنة. القوى السياسية الكبيرة قد لا تكون دائماً الفاعل المباشر في كل عمليات الفساد، لكنها بالتأكيد مسؤولة عن الإطار الذي يسمح لها بالازدهار. هي التي تصنع القوانين والأنظمة الناقصة، وتترك الثغرات، وتغلق أعينها عن محاسبة المتنفذين الذين يخدمون مصالحها. وبهذه الطريقة، يصبح الفساد وسيلة لإبقاء المواطن في حالة ضعف مستمرة، ولتوفير روايات لا تنتهي عن «أعداء الدولة» و«أزمات لا حل لها»، ما يسمح للقوى المتنفذة بالبقاء على الساحة دون منافس حقيقي.

وفي الجانب السياسي، نجد أن المناورة المستمرة بين الكتل تخلق أزمات مفتعلة: تأجيلات، خلافات، صراعات حزبية، كل ذلك يصرف الانتباه عن الحاجة الحقيقية للإصلاح. المواطن يُستهلك في متابعة الصراعات الرمزية، بينما الجوهر، أي تحسين الخدمات، محوّط ومهمل. وهنا تظهر اللعبة بوضوح: كل تقدم سياسي حقيقي يهدد بسطوة هذه القوى، وكل أزمة مستمرة تقويها. من ناحية أخرى، هذه الكتل تمتلك شبكات إعلامية وسياسية تستخدمها لشرح الأزمة وكأنها خارجة عن إرادتهم، أو كأنهم الضحايا الذين يسعون لإصلاحها.

لكن الأهم من ذلك كله، هو أن استمرار الفساد والأزمات يجعل المواطن يعتاد على العجز ويقل تدريجياً انتظاره للتغيير الحقيقي. إنه نوع من التلاعب النفسي والسياسي: المواطن يتأقلم مع الوضع السيء ويصبح أقل مطالبة بالإصلاحات العميقة، وبالتالي يترك المجال للمتنفذين ليظلوا في مركز القرار. وبالمقابل، أي محاولة لإصلاح الأمور بسرعة، سواء في الخدمات أو الاقتصاد، ستكون تهديداً مباشراً لسيطرتهم، لأن المواطن حينها سيبدأ في المطالبة بحقوقه بشكل فعلي، وسينقشع «الستار السياسي» الذي يسمح للفساد بالازدهار.

إذا نظرنا إلى هذا الواقع بعمق، سنفهم أن المطلوب هو كسر الحلقة المفرغة: تقديم إصلاحات حقيقية في الخدمات، ضبط الاقتصاد، مكافحة الفساد بشكل مستقل وفعّال، وتحسين الأداء السياسي بشكل شفاف. كل هذه الأمور، إذا تحققت، ستقلل من قدرة القوى المتنفذة على التبرير لوجودها وسيكشف المواطن من هو صادق ومن هو متلاعب. ولكن للأسف، هذه الإصلاحات تصطدم بمقاومة شرسة من أولئك الذين استفادوا لسنوات من الفوضى المستمرة.

إذن، هل مصلحة العراق الحقيقية تصادف مصالح المتنفذين؟ الإجابة هي لا. العراق يحتاج إلى دولة قادرة على حماية حقوق المواطن، وتقديم الخدمات، وإدارة الاقتصاد بشكل رشيد، ومحاسبة كل من يتجاوز القانون. لكن المتنفذين يجدون في استمرار الأزمات بيئة آمنة لهم، فهي تحميهم من المنافسة المدنية، وتتيح لهم التلاعب بالرأي العام، واستثمار الفساد كأداة ضغط سياسي.

في النهاية، يمكن القول إن الوضع الحالي ليس صدفة، بل هو نتاج استراتيجية ضمنية: إبقاء العراق في دائرة مستمرة من الأزمات لضمان بقاء نفوذ قوى معينة. المواطن، والخدمات، والاقتصاد، والفساد، كلها أدوات ضمن هذه اللعبة. ومن هنا يظهر تحدي الإصلاح: ليس فقط التغلب على الأزمات، بل مواجهة من يستفيد من استمرارها. الإصلاح الحقيقي لن يكون سهلاً، لكنه الطريق الوحيد لإعادة العراق إلى مساره الطبيعي، حيث المواطن هو مركز الاهتمام، والدولة هي الضامن للخدمات والحقوق، والقوانين تحمي الجميع دون استثناء.

في النهاية، تبقى الحقيقة واضحة: كلما تحسنت الخدمات، وتعافى الاقتصاد، وتم ضبط الفساد، كلما قل الحديث السياسي عن أزمات وهمية، وكلما انكشف الدور الحقيقي للكتل المتنفذة. لذلك، فإن المستقبل يتطلب إرادة سياسية حقيقية وشجاعة لمواجهة مصالح القوى التي اعتادت على الفوضى المستمرة. إصلاح العراق ليس خياراً، بل ضرورة، ولكل من يهمه مستقبل الوطن أن يعرف أن استقرار المواطن واستقلال الدولة هو الطريق الوحيد لإنهاء هيمنة الفساد والمصالح الشخصية على حياتنا اليومية.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
كرار الاسدي

كرار الاسدي

كاتب في وكالة نون الخبرية

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!